السبت، 30 أكتوبر 2010

صدى النسيان ...


على وقع صوت المطر المرتطم بزجاج الصالة جلست العائلة كعادتها كل سنة في مثل هذا اليوم
لقد اتفقوا منذ زمن أن يجلسوا هكذا جلسة وكُلٌ يفصح عن ما فعل بهذه السنة المنقضية ,
وقد يتخلل الجلسة أحياناً بعض التصريحات القديمة من أفعال الآباء والأجداد .
قام أحد الأبناء وقال : لقد تخرجت من الجامعة منذ أشهر مضت وقد عملت بوظيفة كنت
أحلم بها إذاً أضنها سنة سعيدة عليً , قالت ابنة عمه ولكنك نسيت بعض الوعود ,
فرمقها بنظرة تدل على فهم مغزاها . قال صوت من الجالسين كانت سنة سعيدة بكل ما فيها
فتعالت الأصوات والضحكات من الجميع إلا الجد الذي يقترب من التسعين .
فقال بصوته المشحون بأشجان الماضي الذي يطارده من زمن الصبا ,
عندي ما أبوح به أمامكم جميعاً ومدً يديه المدبوغتين لصورته المرسومة برسم اليد لأيام شبابه
وغاب عنهم كأنه يحادث نفسه ويصارحها .
كنتُ شاباً ككل الشباب بالجزيرة العربية ننتظر فرصة للابتعاد عن حياتنا البرية ومصاعبها
كانت رزنامة التاريخ تشير إلى 1930 وكان عمري لا يتجاوز العشرين , الأهم كنت متزوج
قالت الجدة كنت متزوج قبلي ؟ نعم وكان لي طفلين صغيرين !.
فقال أحد أبناءه لنا إخوة لا نعرفهم , ولا أنا اعرفهم ,ولا تقاطعوني .
أكمل أنه بذلك الوقت البعيد قد سمع عن الكويت وحياتها الرغدة الهنية , وأن هذه المنطقة
التي أسموها كوت تحمل من مسرات الحياة مالا يخطر لهم على بال أو خاطر , فقررت أنا
وصديق أن نهرب من حياتنا ونأتي للكوت ونعيش بها ونحاول نسيان أهلنا وحياتنا حتى أبناءنا
وبالفعل مضينا على الأقدام مسافة طويلة جداً تحملنا أحلام المستقبل السرابي وتحمًلنا صعاب
الطريق المظلم والوحشة المميتة , وقد فعلنا ووصلنا إلى سور الكوت القديم وانتقلنا
من حيات إلى حيات أخرى .
عملنا عند أحد الشيوخ الذين كانوا يتمشون بين الناس لا تميز بين أمير ورجلٌ عادي ,
لم يسألنا أحد من أين أتيتم أو إن كان لنا أهل , حتى أصبحنا مثل أهل هذا البلد الغريب .
مضت سنين يتلوها سنين ثم تزوجت أنا من جدتكم هذه , وتزوج صديقي أيضاً من كريمة أحد
الرجال رحمهم الله جميعاً , ولكن الماضي لم يتركنا بحريتنا أبداً .
كان واجباً أن أقاطعك يا أبي ولكن ماذا تريد أن تخبرنا من هذه القصة الغريبة ؟
أنكم لا يمكنكم الهروب من الماضي إما مواجهته أو الموت .
فأطرد هل تذكرون سنة 1990 ؟ ومن ينسى هذه السنة الملعونة ,
لم تكن ملعونة عليً , كيف ؟ كنتم كلكم تهربون من الحرب وكنتُ أنا أعود للماضي ,
زدنا وضوحاً ؟
حينما وصلنا للملكة العربية السعودية ونزلنا عند أحد الأسر التي تربطني بها قرابة بعيدة
كانت هناك مربية عندهم , هل تذكرونها يا نساء , نعم إنها امرأة غريبة وكانت دائماً
تدعوا على شخص مجهول لم تفصح عن اسمه وكانت عمياء أيضاً يا أبي ,
مثلي تماماً أعمى ,
قالت إحدى بناته الآن أذكر أننا حين ذكرنا اسمك أمام المربية سألتني بإلحاح عنك وعن شكلك
فقلت لها أن أبي اسمه حامد الناصر ووصفت لها شكلك , وما كان منها إلا أن هلًت دموعها
على وجنتيها و لم نكن نعرف لما , سألناها فقالت لا شيء .
هل يعقل يا أبي أن تكون ؟
نعم هو كذلك .
مرتاً كنتم كلكم بالخارج فأتاني أحدهم وأخذني للداخل ولأني كنتُ أعمى كان يسيراً أن
أدخل إلى النساء , فجلسنا أنا وهي ومعنا أشخاص لا أعرفهم من نساء تلك العائلة الكريمة ,
وغاب مرتاً أخرى عن الوجود والوقت وتعدى حدود المكان والزمان وذهب حياً إلى هناك
يرجوا صفح القدر ,
ــ تركتني أنا وأطفالك يا حامد ,
ــ بعثت لكم أن تلحقوا بي ,
ــ لم يصلنا شيء منك ,
ــ ولكني بعثت لكم بصديق ليجيئني بكم جميعاً ,
ــ مات أطفالك من الجوع وكنت أموت أنا أيضاً لولا هذه العائلة ,
ــ لقد كنتُ شاباً وطائشاً ,
ــ لم أسامحك على هذا ولن أسامحك ,
ـ أرجوكِ افهمي ,
ـ كلٌ هذه الأشياء التي تحصل لك بسبب ماضيك الأسود ,
ـ هدًني المرض والعمى ,
ـ فقالت بلهجة أبناء الزمان الأول (( هذي حوبتي فيك )) .
قام من عندها يجٌره الذي أتى به إلى ديوان الرجال , لم يشأ أن يخبر أحد ولم تشأ هي أيضاً ,
وكان أهل ذلك البيت الكريم أحرص على السر .
ومن يومها وأنا لا تفارقني كوابيس الماضي وآهات أطفالي الذين قتلتهم بنفسي ,
أسمع أصوات شكواهم تقتلها بُعدُ المسافة بيني وبينهم , قالت لن تسامحني أبداً .
فقال أحد الأبناء ولكنك عشت حياة لا تشوبها شائبة وجميع من عرفك يمدح تصرفاتك
وهذه حقيقة , علٍي كنتُ أكفر عن ذنوبي , كنت رجلاً شريفاً , لم أكن بذلك القدر من الشرف ,
قال الجد بعد عناء الرحلة أني قررت مرتاً السفر إليها لأعاود طلب السماح ,
ولكني أبلغت أنها ماتت . ولم تسامحني !.
الماضي ذلك اللص الذي يتوارى خلف الظلام , إياكم أن تهربوا من مصائبكم ,
إياكم أن تتركوا من أحبكم , إياكم أن تتركوا أهلكم , إياكم أن تتفرقوا , إياكم أن تتفرقوا .
إياكم أن تحاولوا أن تهربوا من الماضي لأنكم ستعودون إليه , لتكملوا ما تبقى من تفاصيله
فلا أحد يستطيع الهرب من الماضي !. لا أحد
رأى الأبناء دموع أبيهم لأول مره بحياتهم , فقال أحدهم هل تشعر أنها سامحتك بداخلها
ولم تشأ أن تخبرك بذلك ؟
فقال بعد قليل من الصمت ,
عندما يتوقف المطر !

ليست هناك تعليقات: