قال كأنه يحادث نفسه :
ـ إني أرى رجلاً !؟.
ـ ..........
ـ منذُ شهر تقريباً .
ـ ..........
ـ لا . كأنه يأتي إذا ما أخطأت .
ـ ..........
ـ لا أعرف أكثر مما قلت .
أمسك و تنهد . رشف عدة رشفات من القهوة فخيل إليه أنها أطفأت بعض لهيبه ,
و انتظر أن يقول صاحبه شيء لكن عز عليه الحوار و ألانتظار .
و حدجه الآخر بنظرة تطاير من لحظها الشرر ,
قال بعد زفرة ملل : مشكلتك أنك تفكر كثيراً .
دارى خاطره المندفع و تأنى , و أتى على ما تبقى من فنجانه
ثم ركز نظرة على صاحبه بتحد , و وثب من أعماق صدره الوحش المستكين , و من يأسه أستمد قوة خفيه إن هو أطلقها لا تبقي و لا تذر .
قال : هل يلام الغريق على تعلقه بقشه .
و فز واقفاً تاركاً وراءه لجتاً من الاحتمالات .
تبعه الآخر على الأثر و عند باب المقهى أوقفه بوضع يده على مقود الزجاج ,
هز رأسه بأسف ثم أطرد : يا لك من متهور .
ـ التشرد أو النصر ... لا حل ثالث عندي .
ـ إنك تتوهم , النصر الحقيقي هو انتصار القلب !.
و صمت برهة ليتأكد من أنه استوعب كلامه ,
ثم تابع : مشكلتك الأخرى أنك لا تدع قلبك يتكلم .
فباخ حماسه و اصطدمت قوته الواهنة بحاجز الواقع .
فلم يحر جواباً و دفع يده من على الباب و ولى خارجاً . و أتبعه صدى صوته يقول : انتصر لقلبك و إلا غرقت .
( 4 )
جميع المعارك التي يخوضها الإنسان , هناك احتمال و لو واحد بالمئة أن ينتصر ,
حتى تلك المعارك الغيبية . إلا معركة الإنسان ضد الموت , لا ينتصر فيها الإنسان ألبته , فيها حتى احتمال الأمل معدوم . و صاحبنا يعرف الآن أكثر من أي وقت مضى ما هو الموت , أن تطرد موسوم على قفاك بأنك خاسر , أن تذهب هي دون إنذار كما الموت يأتي دون إنذار , و هو يعرف ـ أيضاً ـ أنها ليست ضعيفة ولا جاحدة بل هو من أرخص قدرها , و الرسالة لا تعني سوى أنها كانت تشعر به منذ البداية , ربما كانت تعرف معرفة اليقين حكايته مع صاحب الصوت . و تذكر حوارها معه قبل يوم من رهن البيت حين قالت : إنك تبيعني !.
ضحك و داعب خصلات شعرها برقة و قال بحنو : فرصة العمر يا نصفه الجميل .
و لكن ماذا تفيد الذكرى و البيت هاجرت منه ملكته . أما الموت فأصبح شغله الشاغل , استحوذ على جل تفكيره . أليس اليأس موت ؟ أجل هو كذلك إذاً لماذا التكبر !.
و قال لنفسه : إذا زاد اليأس عن حده ذلك موت و إذا طمس الطموح عقلك ذلك
موت أيضاً . و عند الخسارة يتمنى الإنسان الموت .
و لكن خسارته لها تفوق خسارة كل شيء
و من قاع يأسه استشعر نور باهت ما إن حدً بصره حتى ولى هارباً ,
و طرق بابه طارق فدلف إليه بخطى وئيدة شبه ناعسة ,
أدخل القادم دون تكلف و صعدا للطابق العلوي حيث المكتب المنحوت ,
على ركن منه وضع غلاية ماء و جميع المستلزمات لإعداد أكواب القهوة و الشاي ,
قال صديقة : لن أشرب القهوة على أي حال .
ترك الغلاية تعمل و توجه إلى النافذة المطلة على الشارع و قال بصوت مكظوم :
انتظره كل ليلة !.
ـ هل تذهب إلى العمل ؟
ـ أني في إجازة مفتوحة .
ـ منذ متى ؟ و علام تراهن ؟
ـ لم أعد أحسب الأيام ... أراهن على خطأ !.
ـ إنك متهور !؟.
ـ لا جديد
ـ مشكلتك يا صديقي ........
قاطعة بغضب و قطب حاجبيه باستهانة و توجه خلف المكتب رامياً ثقله على الكرسي الوثير . قال :
أني أعرف مشاكلي .
هز الآخر رأسه بأسف و أطرد : دعنا نترك المشكلات و تعال لنحلل الأمور برويه !. استرد انتباهه فأكمل : ربما لا يكون هناك أساس لما تفكر به .
ربما تلك الكلمة لا تعني أكثر من الظاهر , قال برماً : أني أعرف كيف أميز .
عاد يهز رأسه و صمت لانشغال الآخر بإعداد الشاي
و بعد قليل أكمل : قل لي إذا سرق أحدهم هل نقطع يده أو جزأ من دماغه !؟.
فنظر إليه متعجباً و أجاب ببديهيه مطلقه : يده طبعاً .
ـ و لكن اليد ما سرقت إلا بأمر العقل !.
ـ ذلك أمر يحتاج إلى تفسير علمي .
ـ دعك من العلم الآن و أخبرني ماذا تظن بحياة أشخاص مبتوري الأدمغة !؟.
ـ ينقص الكون إلى النصف .
ـ حسناً ... إذا اعتبرنا أن العقل هو المصدر و اليد هي الأداة
هل يمكن أن يأتمر المصدر ؟
ـ لا أعلم !.
صمت قليلاً ليتأكد من استيعابه للفكرة , و أكمل :
ـ إنك تعتبر العقل هو المصدر الوحيد للأمر , رغم أن القلب يقومه في كثير من الأحيان .
ـ العقل هو مصدر القوة !؟
ـ القوة الحق تأتي من تعاضد العقل و القلب .
ـ إلام ترمي من هذا كله ؟
ـ أنك قد تكون توهمت أشياء لا وجود لها .
أكمل بتأني ليتيح للآخر المجال الكافي للاستيعاب :
ـ إذاً .... قد تكون ( أفهمت ) تعني التحذير و ليس التهديد !.
ـ لم تسمع صوته .
ـ لم أسمع صوته ؟
ـ كان واضحاً بدون شك .
حدجه بنظرة استعلام فتردد الآخر ثم أطرد : واضح بدون شك .
نفخ و أرجع ظهر كرسيه إلى آخر مداه و مسح على رأسه , قال :
ـ بماذا أخبرك قلبك ؟
ـ لا أدري !.
ـ هنا مكمن المشكلة جميعها . إنك تغفل المصدر الآخر ......
ـ لأنك لم تسمع صوته !.
ـ نبرة الصوت أيضاً أداة تابعه لمصدر ...
ـ لا أعلم دواخل القلوب .
ـ نحن نتحدث عن قلبك أنت !.
ارتبك في مجلسه الوثير و ترنح بالكرسي يميناً و شمال ثم قال بنفاذ صبر :
ـ ماذا تريد مني ؟
ـ أرأيت كيف أن العقل سريع الملل . لذلك قراراته دائماً تحتاج إلى تقويم !,
و حينما لم يجيب أكمل كلامه مصحوباً بابتسامة وشت بمواربة الأبواب الموصدة :
عليك أن تتدرب كيف تستمع إلى قلبك .
***
برد الشاي ...........
( يتبع )