( 1 )
باغته جرس الهاتف فالتفت إليه مسرعاً و وثب نحوه بخطى واسعة , ما إن كاد يخرج صوته حتى أجبره المتصل على السكوت . لم يحرك شفتيه بكلمة و ظل مستمعاً مدتاً حتى جاءه الأمر : أفهمت !.
نبتت ذراتُ عرق على جبينه و قال بصوت متحشرج : أجل سيدي .
عاد إلى موضعه الأول عند النافذة المطلة على الشارع , أخذ السيجارة و راح يكملها بعصبية و نهم واضحين . أسفل النظر استقر رجلٌ تحت عامود النور , أعاد ألالتفاتة فتأكد انه هو هو الرجل المنشود . طالعه الآخر بهدوء من تحت عامود النور , رفع له يديه محيياً و انصرف متمهلاً بخطى ثابتة .
***
كاد أن يصرخ به لولا تأخر الوقت إلى ما بعد الرابعة فجراً , و راح يجوب الغرفة بين المكتب و النافذة يفكر بلا شيء و كل شيء ممكن أو مستحيل , هو الرجل ذو المعطف الأسود المقلم بخيوط من الذهب . أجل هو فلا يمكن أن تخطئة عيناه . وقف أمام النافذة قليلاً ثم ارتمي على الكنبة المقامة على الجانب الأيمن من الغرفة , قال لنفسه : أن الحياة لا تحتمل أكثر من كلمة . قال أيضاً : إننا نتقاتل على ثمالة الكافرين . ارتخت أعصابه فثقل جفنه , النوم في مثل حالتي يعتبر أعز من الأمنية , ما إن أطبق جفنيه حتى عاد رن الهاتف فوق المكتب المنحوت , قام متثاقلاً , رفع السماعة بيد مهتزة . أنصت باستيعاب مشوش , هز رأسه بتأني , قال بصوت منخفض : إذاً نلتقي عند العاشرة .
( 2 )
أزفت ساعة العمل فتوجه إلى غرفة نومه ليرتدي ملابسه . تقلبت زوجته على الفراش فطالعها بطرف عينه اليسرى . و هي جميلة من نومها أكثر من صحوتها . و لكنه يحبها بالحالتين , و ما أضناه غير الحب و الاستقرار , أكمل ارتداء ملابسه , وقف أمام المرآة و تملى منظره طويلاً , ثم اقترب من طرف السرير و انحنى طابعاً قبلة على طرف شفتها السفلية . غادر الغرفة متوجهاً للمطبخ , أعد لنفسه كوب قهوة و شرع يطالع الجريدة , و ما إن قلب صفحتها الأولى حتى باغته شعور بالندم . أي ندم فما حدث لا يمكن التراجع عنه الآن , رمى بالجريدة و أخذ كوب قهوته و ولى خارجاً . الطريق منذ ألف سنةٍ هو الطريق . و هذه الوجوه تتكرر بكرور الأيام هي أيضاً ثابته لا تتحرك . الازدحام شديد و رأسه يغلي من فكرة الندم , و هناك بالجهة الأخرى من هذا الدوار يكون الفرج . انتصفت السابعة و هو عالق من أتون الدخان , داحر السيارات حتى خرج و خيٍل له أن سيارته تلهث . وجه المطار يناظره من بعيد فردد نفس الجملة التي اعتاد ترديدها كل يوم في نفس المكان : مطار الكويت يرحب بكم .
عبر الشارع الأول فالتقاطع ثم التف يميناً إلى بوابة الموظفين , استغرب وقوف بعض سيارات الموظفات كأنهم يأتون للعمل عند الخامسة فجراً , و قال لنفسه متى تأتي أنت باكراً . ترجل من سيارته وقطع الشارع إلى مبنى المطار الخلفي , عبر ممر طويل إلى مكان الدرج و دس يده في جيبه ليتأكد من وجود علبة السجائر و المفاتيح , في الدور الأول تحت الأرض مكتبة , توجه إلى مدير القسم ليوقع حضوره , قابلة الآخر بود مصطنع و قال بتبرم : العاملين ينتظرون تصاريحهم ؟ برطم بشيء لم يسمعه الآخر فقال :
ـ ها , ماذا تقول ؟
ـ أقول إن الصباح اليوم جميل .
ـ و أنا أقول أن قسم التصاريح لم يشهد موظف بليد مثلك .
ـ شكراً
نظر إليه متعجباً فدارى ضحكة أوشكت أن تفلت منه . أعطاه ظهره و توجه إلى مكتبه , و ما إن أتخذ مجلسة حتى بادره الزملاء بالكلام , و لكنه لم يلتفت إلى أحد , لم يرى أحد هو الأصح و انشغل بالتصدي لسيل الأفكار التي تنثال عليه تباعاً . ماذا يعني بقوله ( أفهمت ) ؟ و ما سبب الجُبن الذي أصابني لحظة سماع صوته الغليظ ؟ إن كثيراً من الأحيان يتساوى الخطأ و الصواب في هكذا زمن نعيشه . و فكرة الندم لا تبارح تفكيره بل هي تتمدد بخلاياه كالورم الخبيث . نغزه أحد زملاءه بجنبه فانتفض واقفاً , تعجب الجميع من ردة فعله أما هو فمضى خارج المكتب . و في الممر تنبه إلى أنه يذهب إلى مبنى المطار الرئيسي . أكمل بغير وعيي منه حتى وصل إلى المحلات التجارية , تلفت ببلاهة يبحث عن لا شيء . أدركه تجمع لأناس يتجمهرون حول شخص ما , اقترب من الجمع ليتبين من هو مركز التجمع , كانت المذيعة الجميلة مركزه , صاحبة اللغة الفريدة و الحظ السعيد . فقال لنفسه : أي عصرٍ يتصدر به السفهاء أعلى المراكز هو عصر الأفول !. و مضى يتفكر بحاله بعد أن خفف منظر الناس حول المذيعة من لهيب رأسه . دار حول المحلات و وقف يودعُ أشخاصاً لا يعرفهم ولا يعرفونه , تحرش بصبية ربما لا تتجاوز التاسعة عشرة و شيع الأفكار واحدةً تلو الأخرى بمثواها في غياهب الذاكرة . توجه إلى دورات المياه لغير ما سبب . وقف أمام المرآة و تملى منظرة طويلاً , همس لنفسه : سفهاء الأمس قواد اليوم , فلتحيى أعظم مهن التاريخ !.
( 3 )
كان المقهى المطل على البحر شبه خالي حينما دفع بابه . خلت الطاولات و تجهمت الجدران من شح الضحكات الرنانة التي تخترق صفحتها , إن العالم يموج بأقوال الحرب , هنا أو هناك لا يهم فكل بقعة تشهد بجمال فانٍ و قبح بارز لا تستر مساحيق التجميل قبحه . سأل النادل من التي تغني ؟ و ما معنى أن نختبئ من درب الأعمار!؟
طلب فنجان قهوة و فرش انتظاره على الأرض تدوسها دقائق الوقت الماضي , علًق عينه على الباب الزجاجي لحظات مرت كالسنين , لا .... مستحيل ..... هل يمكن ..... ليس الآن ...... ليس الآن بالوقت المناسب للشرود عليه أن يجمع جميع أعضاء جسده للٍقاء المنتظر , و لكن كلمة ( أفهمت ) ترن في أذنه عند أدنى حركة تدب في شيءٍ ما حوله . ماذا تقول ؟ :
تعا تا نتخبا من درب الأعمار ... و إذا هني كبروا و نحنا بقينا صغار .
ما معنى أن نبقى صغار و لما نختبئ من درب الأعمار . سأل النادل فطالعه الآخر بابتسامة صفراء و قال تعني أن الحياة ........
قاطعة بإيماءة من رأسه و قال بعصبية : لا أحتاج لمزيد من التفسيرات للحياة .
ـ الحياة كل يوم لها تفسير , بل كل دقيقة .
ـ مستحيل أن يتحملها الإنسان !.
ـ أنه يفعل و لكنه كثيراً ما يقع فريسة الوهم .
ـ هل يمكن أن ينتصر ؟
ـ ممكن إذا ما استعجل الموت !.
و أردف النادل و قد تبددت ابتسامته الصفراء عن أخرى أكثر قتامه و قال : فنجان آخر ؟
انتزع نفسه من دوامة الحديث و توابعه و قال بعد تنهيده : ليس الآن
نظر إلى ساعته فوجدها تجاوزت العاشرة و النصف بدقائق . علق عينه على الباب الزجاجي لحظات مرت سنين أخر , فتح الباب فمر خلاله شاب و فتاة قال لنفسه أن المكان يجود بضحكة , خلف القادمين تبدى رجل طويل ضخم أسمر كثيف شعر الرأس ذو تقاسيم وجه منمنمة لا تتناسب مع جسمه , سار بثبات إلى حيث طاولته فقام الآخر بملاقاته , شد على يديه دون قُبَل و أجلسه بترحاب . نادى النادل طالباً فنجانين قهوة و ساد صمت متحفز حتى خرقة قائلاً : أني أغرق !.
قال الآخر بثبات و ثقة : تجنب المبالغات من فضلك . و ساد صمت متحفز حتى خرقة قائلاً : أني أغرق !.
تبدى الآخر جامداً صامت و قد وشيي وجهه المنمنم عن حزم ذو خبرة بأقوال شتى من أفواه الغارقين .
قال بتأني : أني أفهمك !.
رنت الكلمة في أذنه رنين مأذي منبعث من الأعماق . تجلت له الأحداث مجموعة كلمات بلا وزن حتى الكون جميعه استحال لعينه مجموعة ذرات بلا ترابط يجمع بينها . نازع شروده و رنين الكلمة الذي لسبب ما وحده ارتبط برنين حاد آخر بدأ ينمو في دماغه . رفع الآخر يده ملوحاً لاسترداد انتباهه , نظرة غير النظر و وعي مشدود إلى أمارات التشابه تتلظى كلسع العقارب داخل رأسه
و اليد هي اليد !. قال كأنه يحادث نفسه :
ـ إني أرى رجلاً !؟.
ـ ..........
ـ منذُ شهر تقريباً .
ـ ..........
ـ لا . كأنه يأتي إذا ما أخطأت .
ـ ..........
ـ لا أعرف أكثر مما قلت .
//
( يتبع )
//
( يتبع )